الحلقة الرابعة
بقلم فضيلة الشيخ الدكتور عبد المنعم بشناتي
رئيس قسم الشريعة والدراسات الإسلامية
جامعة الجنان – طرابلس – لبنان .
تابع :
ميدان الدعوة
ثانيا : منهج وأسلوب الدعوة الرباني ،
الأساس الأول في الدعوة الى الله دعوة البشر الى الإيمان بالله - سبحانه وتعالى - بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ، له الملك وله الحمد ، القادر على كل شيء ، وحده لا شريك له ، وبالضرورة نحن عبيده ، فمحور الدعوة يركـّز على الدعوة الى الإيمان بالله عز وجل .
وفي الإسلام الدعوة ليست نظرية جدلية أو فلسفية ، والدعاة الى الله عز وجل يطلبون في عملهم سبيل الله عز وجل فيعملون على طريقة الأسلوب والمنهج الربّاني ، فالأسلوب الرباني يختلف عن أسلوب البشر ، فقد علـّم القرآن الكريم طريقة الدعوة الى سبيل الله ، وهي الطريقة المثلى والمنهج الدعوي السليم ، فقد هيأ الله عز وجل للبشر أسباب الإيمان بالله سبحانه ، لتقوم الحجة عليهم ، وتسقط أعذارهم ، فيبين الله - سبحانه وتعالى – أن خلقه في هذا الكون فريد وإبداع ليس له مثيل ، فيدعو الله البشر الى النظر في مخلوقاته ، وكيفية تنظيمها وترتيبها بدقة متناهية ، فلا يمكن أن يكون بدون خالق وصانع ، فلا صدفة في نظام المخلوقات - كما لا يوجد صدفة في ترتيب آلات السيارة وترتيب الأدوية وصناعة الطائرات - فإنما كل المخلوقات أثر صنعه مؤثر كما هو الحال في الآلات ، فالآلة لا تصنع نفسها ، والآلة لا تصنع آلة أخرى إلا بتدخل الإنسان وتوجيهه ، وقد سقطت نظرية البشر في بدء الخليقة ، أمام قول الله تعالى : " [سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ] {فصِّلت:53} .
وقوله تعالى :" [أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ * وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الخُرُوجُ] {ق:6-11 } .
فقد تحدث القرآن الكريم بأسلوب ومنهج علمي يفحم السامع والمتأمل ، ويزعن أصحاب العقول والنهى ، فقد قدم القرآن الكريم عرضا ً علميا ً هائلا ً في كثير من الآيات البيّنات فكانت إعجازا ً علميا ً إمتدادا ً من عصر النبوة حتى عصرنا والى قيام الساعة ، من فهم وأدرك هذا الإعجاز العلمي سواءً كان في العلوم البحتة أم الآداب والبيان واللغة سجد لله - سبحانه وتعالى - مستيقنا ً أن الله واحدٌ لا شريك له ، ودخل في نفسه وقلبه الإيمان ، فالقرآن يخاطب البشر بالمنهاج النوعي الفريد ، أسلوبه يمس الشعور والعواطف والعقول ليعيدهم الى الفطرة التي جُبلوا عليها ، قال الله تعالى :"[فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ] {الرُّوم:30} .
والإنسان وَهبه الله - سبحانه وتعالى - فطرة سليمة ، وزوّدهم بالآلة التي تساعدهم على العقيدة السليمة ، فوهبهم السمع والبصر والفؤاد ، ليتدبروا القرآن ودعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فالفطرة السليمة تدعو صاحبها الى الإيمان ، وهذا ما عبر عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ففي الحديث : عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ما من مولود يولد إلا على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه " ] الحديث صحيح ، رواه الإمام البخاري /فتح الباري/ كتاب الجنائز (23)باب (79)حديث (1358)[.
والمنهج الرباني في الدعوة يشمل الأنبياء والدعاة ، أن يصبروا في دعوتهم وعلى ما يلاقونه من مشاق تقف أمام دعوتهم الى الحق ، وأن لا ييأسوا مما يصادفونه من معوقات وعليهم بذكر الله - سبحانه وتعالى - في كل حين ، فهو ناصرهم ووليهم ، فلا يطيعوا أهل الضلال والكفر ، قال تعالى :" [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ القُرْآَنَ تَنْزِيلًا * فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ * وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا] {الدهر:23-26} .
وفي ميدان الدعوة يظهر المنهج الإسلامي جليا ً لتوجيه البشر الى كمال الأخلاق والطهر والتوجه السليم الى جانب الإيمان والتقوى والصلاح ، يقول تعالى :" [هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ] {الجمعة:2} منهج تربوي للناس وتطهير لهم من الآثام وتعليم للشريعة السمحة بكتاب منزلٌ من رب العالمين على رسول ٍأمين من نفس قبيلة قريش التي كانت تعبد الأوثان ، فهذا الإعلان الصريح عن مضمون الدعوة الإسلامية ، فليست دعوة الى الضلال والفسق والفجور ، بل هي دعوة الى العلم والطهر والسعادة أولا في الدنيا وثانيا في الآخرة ً، فأصحاب العقول النيرة والألباب الطاهرة إذا نظروا في تفسير آيات القرآن خشعت قلوبهم ، فقد دعاهم رب العالمين ليتدبروا القرآن الكريم ، قال الله تعالى :" [كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ] {ص:29} فمن قرأ القرآن وتدبره فهم ما فيه من مواعظ وعلوم وآمن بالله ربا ً وبمحمد رسولا ً وبالقرآن كتابا ً الى كل أركان الإيمان فإن الله - سبحانه وتعالى – يعطيه صفة الإيمان ، وهذه الصفة هي أغلى ما يمتلكه الإنسان في الدنيا ، يقول الله تعالى :" [الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ] {البقرة:121} .
ولكن هناك نوع آخر من البشر وصَلـَتهم الدعوة الإسلامية وقرأوا القرآن الكريم إنما قلوبهم جاحدة للخير ، ويتمسكون بالعصيان فقد عمت بصيرتهم وأقفلت قلوبهم وصُمت آذانهم ، قال تعالى داعيا هؤلاء لتدبر القرآن الكريم :" [أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا] {محمد:24} .
وفي ميدان الدعوة فإن رجالها ملزمون باتباع أوامر الله - عز وجل - وكذا كل مؤمن ، فلا تبديل أو تغيير لأوامره ، ومرجعهم في كل المسائل كتاب الله - سبحانه وتعالى - ، وعليهم أن يصبروا على تعليم المؤمنين الشريعة الغرّاء بدقة وتفان ، ولا يغفلوا عن هذا العمل الصالح ، ولا يطيعوا أصحاب الأهواء المشبوهة ، يقول الله تعالى :" [وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا * وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالغَدَاةِ وَالعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا] {الكهف:27-28} .
للحديث بقية