louis vuitton
ugg online
التعريف بالمؤسسة
نشاط سالم يكن
بيانات ومواقف
الإخوان المسلمون
الحركات الإسلامية
الجماعة الإسلامية
فقهيات معاصرة
مراصد الموقع
أبواب دعوية
إستشارات دعوية
حوارات ومحاضرات
بأقلام الدعاة
مواقع صديقة
ملفات خاصة
اتصل بنا


  فقهيات سياسية | العولمة السياسية بقلم الداعية الدكتور فتحي يكن رحمه الله
 





العولمة السياسية
عندما نتصدى للعولمة السياسية فإننا وبنفس الوقت نكون في خضم العولمة الاقتصادية والثقافية.. ذلك أن محاور العولمة مجتمعة تلتقي عند مصب واحد، عند غايات وأهداف من يملك القدرة على تشكيل العالم أو إعادة تشكيله وفق مصالحه ورؤيته. وهكذا نجد أنفسنا ـ على أبواب القرن الحادي والعشرين وبعد عقد من الزمن على انهيار الاتحاد السوفييتي ـ أمام شمولية رأسمالية تضاهي الشمولية الشيوعية وتتعداها.. رأسمالية جارفة تسعى عبر الثقافة والتكنولوجيا والعسكر للإمساك بزمام الأنظمة السياسية وذلك من خلال موقعها الدولي النافذ على الساحة العالمية وضمن المنظمات الدولية. مما دفع بأميركا "النموذج الرأسمالي الطاغي" إلى وضع مقاييس سياسية عالمية جديدة تُخضِعُ الدول لها، وتقيّمها على أساسها، وتضع لها العلامة المناسبة وشهادات الصلاحية.

إن العولمة السياسية نزعة متجذرة من خلال آفاق السيطرة والشمولية التي سادت بعض النزعات والأيديولوجيات السياسية في العالم، وأخذت ملامحها العلنية تظهر في العالم الحديث من خلال المنظمات الدولية التي أبرزت وبشكل علني ورضائي دولاً كبرى أخذت تهيمن على العالم وتتقاسم النفوذ فيما بينها. إن نظرة خاطفة لنشأة تلك المنظمات الدولية تبين لنا الروح الغربية وراء تلك الخطوة من أجل تحقيق الأهداف المرسومة للمستقبل. فبعد الحرب العالمية الأولى بدأت الدعوة إلى قيام منظمة عالمية لتشجيع التعاون وحل المشاكل بين الدول، وحمل لواء هذه الدعوة كل من إنجلترا وأميركا اللتين اتفقتا مع انتهاء الحرب على تشكيل لجنة مشتركة عرفت بلجنة (هيرست ـ ميلر)، وقد وضعت تلك اللجنة مشروع عهد عصبة الأمم الذي أقرته لاحقاً الدول المشاركة في مؤتمر فرساي (15/1/1919). إزاء فشل عصبة الأمم واحتدام الحرب العالمية الثانية، كان التحرك من جديد لإيجاد منظمة دولية جديدة، وتجلت الخطوة الأولى في الوثيقة التي وضعها الزعيمان الأميركي والبريطاني روزفلت وتشرشل، والتي عرفت "بميثاق الأطلسي" والتي نصت على إيجاد نظام عام للأمن قائم على قواعد أشمل مما كانت عليه العصبة، وتلا ذلك خطوة ثانية في شهر كانون الثاني من عام 1942 عرفت بتصريح الأمم المتحدة، والتي هيأت مشروعه دوائر الدولة الأميركية ووقعته جميع الأمم التي كانت في حرب مع الأنظمة الفاشية والنازية. الخطوة الثالثة ظهرت في مؤتمـر موسكـو فـي شهر ت1 من عام 1943، وحضر المؤتمر في حينه وزراء خارجية كل من الولايات المتحدة الأميركية، بريطانيا، والاتحاد السوفييتي واتفقوا خلاله على إحداث منظمة دولية تقوم على أساس المساواة بين جميع الدول المسالمة، وفي الشهر التالي أُقر هذا الاتفاق في مؤتمر طهران بين الزعماء الثلاثة: روزفلت، تشرشل، وستالين. وفي شهر ك1 من عام 1943 شكلت هيئة دراسات مركزها واشنطن من أجل  وضع المبادئ التي ستقوم عليها المنظمة الدولية. وقد حضر اجتماعات هذه الهيئة كل من ممثلي الولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد السوفييتي في المرحلة الأولى، وممثلي الولايات المتحدة وبريطانيا والصين في المرحلة الثانية. واعترضت حينها بعض الدول على هذه الحصرية،  فأجاب المندوب الأميركي:"إن الأمم الكبرى التي أراقت دم أبنائها من أجل سلام العالم، ترى من حقها وضع أسس منظمة المستقبل". أما الخطوة الأخيرة في إنشاء هيئة الأمم فقد تجلت في مؤتمر "سان ـ فرنسيسكو" الذي أعقب مؤتمر يالطا للزعماء الثلاثة روزفلت وتشرشل وستالين، وقد حضر المؤتمر ممثلو واحد وخمسين دولة، عارض الكثيرون منهم الامتيازات التي أعطتها الدول الكبرى لنفسها، إلا أنها عادت وأقرت بذلك. واختتم المؤتمر أعماله في 26/6/1945 بتوقيع الدول المشاركة فيه على ميثاق منظمة الأمم المتحدة، الذي أصبح ساري المفعول في 24/9/1945 بعد المصادقة عليه من قبل الدول الكبرى وأكثرية الدول الأعضاء في الأمم المتحدة.

إن بروز منظمة الأمم المتحدة يعتبر مرحلة جديدة من مراحل العلاقات السياسية في العالم، وقد جاءت نتيجة للحرب العالمية الثانية محققة إرادة المنتصر، فتعزز بذلك رسوخ الدول الكبرى وعلو شأنها باتفاق أمم الأرض، وقد شكل ذلك معالم سياسية عالمية جديدة. أما الدور الغربي فقد كان بارزاً للغاية تصدرته الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا اللتان كما سبق وبيّنا أسسا لفكرة إنشاء منظمة عالمية منذ عهد العصبة إلى ميثاق هيئة الأمم، وشكلا الوزن الثقيل في الإعداد للميثاق وصياغته.. وهكذا تجمعت إرادة دولية كبرى في هيئة الأمم التي كان أساس وجودها إرادة غربية، ولطالما ارتبط الوجود بالأهداف والغايات. لقد شكلت هيئة الأمم معبراً هاماً للسياسة الغربية ـ الأميركية على وجه الخصوص، وبقيت تشكل إطاراً للتوازن الدولي والمنافع المتبادلة، إلى أن رجحت كفة الغرب وانحنى الاتحاد السوفييتي وتقطعت أوصاله، مما أفسح المجال أمام توسع أميركي لا سابقة له، فقد تهدم الحاجز الذي يحد من ثورانه وفورانه، واتجهت البوصلة السياسية العالمية إلى نظام آحادى القطبية، واستغلت الولايات المتحدة هذا الوضع الجديد وفرضت هيمنتها على المصالح الاستراتيجية العالمية فوضعت يدها على منابع النفط في الخليج ودخلت عمق أوروبا من جراء الحروب الداخلية في يوغوسلافيا السابقة.. هذا الوضع الجديد جعل من الولايات المتحدة الأميركية القوة الضاربة والناطقة باسم الغرب المهيمن على المنظمة العالمية، مما أفرغها من محتواها بل واستُغلت في كثير من الأحيان لإحلال الشرعية الدولية على ما تقوم به الولايات المتحدة من أعمال. إن الأفق الأميركي النازع نحو السيطرة والهيمنة اللامحدودة دفع بالولايات المتحدة الأميركية إلى أخذ مبادرات وإصدار قوانين داخلية تسمح لها بالتدخل في أي بقعة من بقاع الأرض معتمدة على قدراتها العسكرية وإمكانياتها وشركاتها المالية، وعلاقاتها السياسية وريادتها لحلف شمالي الأطلسي الذي أصبح القوة العظمى التي تدير العالم عسكرياً، تتربع على قمته الولايات المتحدة الأميركية لتصل من خلاله إلى وجود عسكري عالمي وما يعكسه من تداعيات سياسية وأمنية واقتصادية. إنها محاولة لأمركة العالم وهو ما يطلق عليه اسم العولمة، وهذا ما يعتبر مكان فخر واعتزاز للغربيين والأميركيين على وجه الخصوص.. يقول الكاتب الأميركي (توم فريدمان): "نحن أمام معارك سياسية وحضارية فظيعة، العولمة هي الأمركة، والولايات المتحدة قوة مجنونة نحن قوة ثورية خطيرة وأولئك الذين يخشوننا على حق، إن صندوق النقد الدولي قطة أليفة بالمقارنة مع العولمة، في الماضي كان الكبير يأكل الصغير، أما الآن فالسريع يأكل البطيء".

إن نزعة العولمة السياسية ـ الأمركة ـ رافقها إحياء شعور غربي لقيادة العالم، وبأن المستقبل يجب أن يحسم نهائياً لمصلحة الغرب، إن هذه الحملة الدعائية التي توجّه الرأي العام الغربي وتنطلي على الرأي العام العالمي تؤهل أميركا أن تفعل ما تشاء وتجد لها الأعذار والمبررات، وكأن غلبة الغرب وعولمة العالم على طريق الأمركة أصبح أمراً محتوماً وعلى البشرية أن تسلم به، وكأنه قدر محتوم مما يضعف عند الجميع القدرة على المقاومة أو حتى التفكير بها. فيرى "فاكوياما" الكاتب الأميركي الياباني الأصل في كتابه نهاية التاريخ:"أن الصراع الأيديولوجي الذي صاحب البشرية حول تنظيم المجتمعات البشرية قد حسم لصالح الديمقراطية الليبرالية التي أضحت تمثل نقطة النهاية في التطور الأيديولوجي للإنسانية، وإنها الصورة النهائية لنظام الحكم البشري، وبذا فهي تمثل نهاية التاريخ.. وهكذا فإن السعي البشري قد حط رحاله أخيراً بعد أن وجد ضالته في الديمقراطية الليبرالية وذراعها الرئيسية اقتصاد السوق". وهذا ما تسعى إليه أميركا مستخدمة كافة الوسائل من أجل تنميط العالم على صورتها وفتح الأسواق والحدود. أما هنتنجتون فيرى:" أن سقوط الشيوعية يمثل بداية مرحلة جديدة في العالم ستتسم بصراع الحضارات وإنه من بين حضارات العالم الرئيسية سيقوم الصراع بين الحضارة الغربية من جهة والحضارة الإسلامية أو الكونفوشية من جهة أخرى، وبذلك فإن الصراع سيتحول إلى تنافس جديد قوامه البنيان الحضاري للأمم المرتكزعلى الدين والتراث والثقافة ونمط التفكير السائد". وبما أن الحضارة الغربية غالبة اليوم فقد عمد هنتنجتون  في كتابه إلى تقديم توصيات ومقترحات علها تؤدي إلى ضمان استمرارية تلك الغلبة. إنه بلا شك توجيه للرأي العام واستعداد لتقبل معارك قادمة ضد ما تبقى من حضارات بل والتحريض عليها لبقاء النموذج الغربي كنموذج وحيد وفريد.

لقد سعت الولايات المتحدة الأميركية انطلاقاً من كونها مركز العالم المهيمن إلى تفكيك أي شكل من أشكال الوحدة والانسجام بين الدول وإخضاعها إلى سلم ترتيباتها السياسية وأهدافها المستقبلية.. وهذا ما تجلى مع العولمة الأميركية من تفتيت لدول وإجهاض لمشاريع وحدوية لكي تبقى الولايات المتحدة النموذج الأوحد الموحد القوي أمام مجموعات هائلة متناثرة من الدول الصغيرة التي تحتاج الحماية والرعاية. ولقد تعدّت التدخلات في شؤون الدول كما عرفناه إبان الحرب الباردة، إلى شؤون محض داخلية أضفت عليها الولايات المتحدة صفة الشأن العالمي، فلم تعد قضايا الحروب الأهلية والأثنية والمجاعات والأوبئة وزيادة السكان.. قضايا داخلية تهم دولاً بعينها فحسب بل أصبحت من خلال العولمة السياسية مشاكل عالمية تؤثر وتنعكس على الدول الليبرالية الغربية، فتسمح لنفسها جراء ذلك بالتدخل حفاظاً على نمطية عيشها وأمنها السكاني والديموغرافي وامتدادها الاقتصادي.

إن التدخل في شؤون الدول والشعوب أصبح سمة من سمات النظام العالمي الجديد ومدماكاً من مداميك العولمة السياسية، وقد رُبط هذا التدخل بمعانٍ سامية وبأطر واسعة غير محدودة، كان من أبرزها رفع الغرب لشرعة حقوق الإنسان الدولية ـ كداعم لها ومدافع عنها ـ مما يخوله التدخل في شتى شؤون المجتمعات والدول لأن الشرعة الدولية لحقوق الإنسان تفصّل الشأن الاجتماعي على نمطية معينة وكأننا أمام صنف واحد من البشر يحملون نفس القيم وذات الأهداف!؟

لقد كان للغرب معاناته في حربين عالميتين خلال النصف الأول من القرن العشرين، انتهكت فيها حقوق الإنسان بشكل فاضح، ومع انتصار التحالف الغربي سنة 1948، وعند تأسيس هيئة الأمم المتحدة كان في المنظور الغربي أهمية كبرى لوضع شرعة دولية لحقوق الإنسان، وقد أصرت الولايات المتحدة على ذلك من خلال تمسكها بإنشاء المجلس الاقتصادي ـ الاجتماعي. وهكذا ونتيجة للضغوط الأميركية ـ البريطانية أوصت اللجنة التحضيرية للأمم المتحدة بأن يُنشئ المجلس الاقتصادي والاجتماعي في دورته الأولى لجنة لتعزيز حقوق الإنسان، وعملاً بتلك التوصية أنشأ المجلس، لجنة حقوق الإنسان في وقت مبكر عام 1946. ومن ثم اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة ونشرت على الملأ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في 10 ك1 1948 بوصفه المثل الأعلى المشترك الذي ينبغي أن تبلغه كافة الشعوب وكافة الأمم. وقد كانت تلك المناسبة الأولى التي يصدر فيها مجتمع الدول المنظم إعلاناً لحقوق الإنسان والحريات الأساسية، وقد صوتت ثمانية وأربعون دولة إلى جانب الإعلان وامتنعت ثماني دول عن التصويت.

إن الإطار الإنساني الكبير للشرعة العالمية لحقوق الإنسان كانت وراءه إرادة غربية واضحة تنسب لنفسها الحق في وضع مبادئ عامة للبشر فرادى ومجموعات، دولاً ومجتمعات.. لذلك جاءت تلك المبادئ متوافقة مع القيم الغربية والفلسفة الغربية للإنسان والحياة وكأنها تجسد حضارة واحدة يجب إملاؤها على سائر الشعوب والحضارات باسم حقوق الإنسان. وهكذا أصبحت الشرعة الدولية ورقة سياسية ضاغطة يستخدمها الغرب، وفي مقدمته الولايات المتحدة الأميركية لاستباحة التدخل في شؤون الدول والمجتمعات بكافة أنواع التدخلات وصولاً إلى التهديد العسكري. إن فرض النظام الديمقراطي الغربي على الدول أصبح من حقوق الإنسان! وإن تطبيق الليبرالية السياسية والاقتصادية أصبحت من حقوق الإنسان! حتى أن علاقة الرجل بالمرأة والعلاقات الأسرية أصبحت معالمها تحدد وفقاً لمعايير الشرعة الدولية لحقوق الإنسان!! هذا الفضاء الفسيح للشرعة يفتح مجالات متعددة للتدخل في الشؤون الداخلية للمجتمعات والدول، وقد برز ذلك بشكل مباشر جراء التغيير السياسي في العالم الذي أعقب انفراط عقد الاتحاد السوفييتي. فأصبحت بوابة حقوق الإنسان وفي كثير من الأحيان هي المعبر للتدخل في شؤون الدول صغيرها وكبيرها. وفي هذا الاتجاه تترسخ العولمة السياسية، فلا يقال عن دولة ديمقراطية تحترم حقوق الإنسان إلا إذا اتبعت تقليد الغرب كنسخة طبق الأصل لكنها بلا روح. وهكذا فإن من أبرز ما أنتجته العولمة السياسية التركيز على حقوق الإنسان باعتبارها قضية تهم المجتمع الدولي وتعطيه الحق في اتخاذ إجراءات تأديبية ضد كل من يتعدى على هذه الحقوق، وذلك من خلال هيئة الأمم المتحدة، هذا إذا ما توافقت مع الإرادة الغربية. أما إذا تعرضت للنقض في مجلس الأمن فإن الولايات المتحدة الأميركية لن تعدم وسيلة للتدخل إن كان فردياً أو عن طريق حلف شمال الأطلسي، وهذا ما حدث في أفريقيا وأوروبا ودول من آسيا وأميركا..

 

إن تطبيق الشرعة الدولية لحقوق الإنسان بالاستغلال السياسي الحاصل لهذه الشرعة قد أفقدها قيمتها الإنسانية وحولها إلى مطية لأهداف العولمة السياسية الأميركية.

لقد شكل استغلال الشرعة من قبل الدول النافذة ضغطاً كبيراً على سياسات سائر الدول، إلى أن صار رؤساء الدول غير مطلقي التصرف، وأصبحت الشروط والقيود التي تضبط حركاتهم غير نابعة من الرأي العام المحلي والقوة الناخبة فحسب، بل يقيدها السلوك، ومبادئ عامة سياسية واقتصادية دولية.. مما دفع ببعض الدول إلى التلوّن بالديمقراطية والخيارات الدولية المالية من أجل تفويت الفرصة أمام الدولة العظمى للتدخل المباشر في شؤونها وتغيير سياساتها.

لقد أضحت العولمة السياسية أمراً واقعاً فهي تمسك بإحدى يديها الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، وباليد الأخرى العصا، وبهذا التوجه فإنها تخترق كافة الحدود معتمدة على قواها الإعلامية والاقتصادية والعسكرية وأثرها على الرأي العام العالمي الجدير بالإعتبار بحيث أن القوانين الداخلية للدول أصبحت تخضع وتتكيف شيئاً فشيئاً مع آثار العولمة السياسية ومنظومتها الفكرية، وهذا ما ظهر أثره في دولة كبرى مثل بريطانيا حيث اضطر مجلس اللوردات باتخاذ قرار بشأن حاكم تشيلي السابق الجنرال "بينوشيه" مخالفاً لقوانين بريطانيا الداخلية ولأعراف دبلوماسية تقليدية لجهة الحصانة. وكذلك فيما يخص حاكم الكونغو "رولان كابيلا" الذي تطالب هيئة قضائية فرنسية باعتقاله ومحاكمته، وذلك ضمن لائحة أشخاص ودول يطلق عليها اللائحة السوداء، وهي ما يقرره الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأميركية.

لقد واكب تفعيل الشرعة العالمية لحقوق الإنسان من قبل الغرب إحياء لقوميات وإثنيات وأقليات دفينة كانت متعايشة فيما بينها، وقد أصبحت تلك الأقليات صاعق متفجرات داخلية وحدودية يمكن للولايات المتحدة وخطها السياسي تفجيرها في أي وقت شاءت واستغلالها لمصالحها الخاصة ولتحقيق مشروعها العالمي، واتجه الواقع السياسي إلى انقسامات كبرى وإلى دعوات صريحة إلى إنشاء دول جديدة على أساس قومي أو عرقي أو ديني، أوطان لأقليات تساعد على شرذمة المجتمعات وميلاد دول صغيرة متجاورة متقاتلة، تسهل السيطرة عليها ودفعها لطلب الحماية والرعاية، مما يفسح المجال أمام الولايات المتحدة للتدخل وبسط النفوذ. كل ذلك يحدث باسم حماية الأقليات وحقوقهم ويلازم ذلك طفرة قوية للنزعات القومية الزمنية التي أخذت تطفو على السطح من جديد في منطقتنا وأبرزها الدعوات: الفرعونية والفينيقية والأقليات المذهبية الإسلامية والأقليات المذهبية المسيحية.. إن إحياء تلك القومية والطائفية هو من صلب العولمة السياسية الجديدة لأنه يحقق انهيارات كبرى في المنطقة لمصلحة القوى العظمى وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية. إن حماية الأقليات يعتبر من مهمات هيئة الأمم المتحدة، إلا أن أبعاد هذه المهمة وحدودها يحددان في الواقع بناءً لمصالح الدولة الكبرى ـ الولايات المتحدة الأميركية ـ وبهذا أصبح موضوع الأقليات رهينة الإرادة والرغبة الأميركية في التدخل في شؤون الدول تحت ذريعة حماية الأقليات والدفاع عن حقوقهم، ويواكب ذلك مؤتمرات عدة من أجل تهيئة الرأي العام العالمي لأي تدخل سياسي أو عسكري. وتعتبر المنطقة العربية ـ الإسلامية غنية بالأقليات التي تعكس تسامح الدولة الإسلامية بالإبقاء على وجودهم والحفاظ على مكانتهم عبر التاريخ، إلا أن التوجه السياسي للعولمة هو النفاذ إلى هذه الأقليات وتحريضها لتفتيت الوحدات السياسية والاجتماعية للدول الموجودة حالياً. وقد انعقد في الشرق مؤتمر "حقوق الأقليات في الشرق الأوسط" في تل أبيب خلال أيار 1993، بدعوة من مركز البحوث الاستراتيجية التابع لوزارة خارجية العدو الإسرائيلي، وانعقد المؤتمر الثاني في ليماسول قبرص في أيار 1994. وعلى غرار مؤتمرات حماية الأقليات، سارت مؤتمرات الحوار بين الأديان المدعومة من واشنطن والتي تحقق هدفاً من أهداف العولمة السياسية وذلك بإخضاع المقدس الديني إلى المصلحي السياسي، وقد قطعت هذه المؤتمرات شوطاً كبيراً بين واشنطن وطوكيو وميلانو وأبرز ما نتج عنها المصالحة التاريخية بين الفاتيكان واليهود، وهذا ما يشكل ارتكاساً لما بقي من مقدسات الكنيسة ويشكل انتصاراً تاريخياً وعلواً لليهود وسبقاً للولايات المتحدة التي حققت ذلك في زهو انتصاراتها وتأكيدها للعولمة السياسية من خلال تذويب الثابت والمقدس الديني أمام ما يدعى بالحوار والضغط المعنوي المادي. ومع زوال المقدس تستباح كل الحدود والقيم وتتحقق العولمة السياسية أكثر فأكثر.

إن انتهاء الحرب الباردة، جعل التدخل في الشؤون التي كانت تعتبر من صميم الأعمال السيادية للدولة أمراً ليس مسكوتاً عنه فحسب بل مرخصاً قانونياً باستناده إلى الشرعة الدولية، مما أدى إلى تغيير في مفهوم السيادة نفسه. فالسيادة وحسب القانون الدولي هي قدرة الدولة صاحبة السيادة على ممارسة سلطاتها الداخلية والخارجية بشكل مستقل. أما اتجاه العولمة السياسية فإنه يبشر بالانتقاص من السيادة ليصبح مفهوم السيادة له معاييره السياسية وليس أطره القانونية الدولية. وأن المعطيات السياسية الدولية الجديدة التي تشير إليها العولمة ترجح سيادة الأمة على سيادة الدولة وهذا ما يعتبر انقلاباً على القانون الدولي، ذلك أن السيادة بمفهوم الأمة لا تنبع من الحدود السياسية، ولكن من أحاسيس ومشاعر الجماعة، وبهذا تتحول السيادة من الإطار القانوني الواضح إلى إطار الجماعة التي تحوي ضمنا الأقليات والإثنيات التي يمكّنها النظام العالمي من اختراق السيادة بطلب المساعدة والحفاظ على الذات ويبقى ذلك بالطبع رهناً بالإرادة الأميركية ووفقاً لمصالحها ومخططاتها. وهكذا أصبح التدخل الخارجي مبنياً على ممارسة الدولة لسلطاتها الداخلية وعلى الطريقة  التي تعامل بها مواطنيها مما قد يتخذ ذريعة للتدخل في الشؤون الداخلية من قبل الدولة المهيمنة، ومبررات التدخل واسعة ومتعددة تحت عناوين وشعارات كثيرة، كحقوق الإنسان، ومكافحة الإرهاب، ومناهضة التمييز العرقي والديني، وضبط الإتجار بالمخدرات، وصناعة الأسلحة الكيماوية..

ولقد ساعد في خرق سيادة الدول التطور الاقتصادي والمعاملات المالية والثورة التكنولوجية، فالشركات المتعدية الجنسية والتخصصية اخترقت الحدود بقوة، والمؤسسات المالية الدولية كصندوق النقد والبنك الدولي، وضعت المقدرات الوطنية في قبضتها واستنفدتها، وعلى نفس الوتيرة مضت وكالات الأمم المتحدة في ميادين العلم والتربية والثقافة، والمنظمات العالمية للتغذية، وأجهزة المخابرات الدولية، والصواريخ العابرة للقارات التي يصل مداها إلى عمق الدول صاحبة السيادة، أضف إلى ذلك الاختراق الفضائي للدول القومية عبر الأقمار الصناعية وأجهزة الإعلام التي لا تُرد ذبذباتها ولا تخضع لإرادة الدولة التي تستقبلها رغماً عنها. فالإعلام الفضائي وشبكات الاتصال الدولية التي تبث العلوم والمعارف والتوجهات أصبحت تحدد اتجاهات الرأي العام الداخلي، وتساهم في بناء تصوراته وأفكاره.

إن الترابط التام لكل تلك الاختراقات لسيادة الدول يؤدي بلا شك إلى تخلخل مفهوم السيادة الذي قامت عليه العلاقات الدولية وسطره القانون الدولي، وذلك إيذاناً بميلاد طابع سياسي جديد يطبع العالم بطابعه وهو ما نلمحه في العولمة السياسية المتنامية.

إن قوة الإعلام والشركات ليست مجرد وجود في إطار الدولة القومية بل تعتبر بمثابة تدخل، ذلك أن النشاط المتبع لوسائل الإعلام والاتصال ـ بعد الحرب الباردة ـ هادف بكل أبعاده الثقافية والعلمية والهزلية والاجتماعية.. إلى غاية واحدة أساسية وهي تحرير رأس المال من أي قيد بما فيه القيود النابعة من مصلحة أبناء الدولة، حيث يعتبر رأس المال الوطني ركيزة من ركائز السيادة والاستقلال، وبضياع الثروات القومية، يهدد استقلال الدولة وتستباح سيادتها. أما لجهة الشركات المتعدية الجنسية، فإنها ترسخ العولمة السياسية، حيث أن الدول الصناعية الكبرى وفي مقدمتها الولايات المتحدة تسعى للإمساك بالحركة الاقتصادية من خلال الشركات العابرة والشركات الخاصة الفرعية، فبذلك تهمش دور الدول بالمعنى السياسي من خلال ضغطها الاقتصادي، حيث أن الاقتصاد يحرك الكثير من السياسة في العالم.

ومدخل آخر لنقص السيادة يتجلى في التدخل بصراعات الدولة الداخلية، والمبرر للتدخل هو عدم مقدرة الدول النامية على تحقيق الاستقرار الأمني والاقتصادي ـ الذي غالباً ما تحركه المصالح الغربية الأميركية ـ وأصبح كل أمر يتعلق بالأمن يخص الولايات المتحدة وفلكها السياسي، وعلى سبيل المثال فإن فض المنازعات في أفريقيا بدل أن تهتم به منظمة الوحدة الأفريقية القليلة الإمكانيات، فإن أميركا تهتم به لدرجة أن الكونغرس الأميركي خصص أموالاً لدعم آلية فض النزاعات الإفريقية ولتدريب الجيوش الأفريقية على مهام حفظ السلام والتصدي للإرهاب وتجار المخدرات والجريمة المنظمة… إن من يموّل ويشرف على فض النزاعات والذي يدرب الجيوش لا شك أنه يشكل عمقاً وقاعدة في بناء هذه الدولة أو تلك، وهذا ما يمد من يد الولايات المتحدة الطولى المتدخلة في كافة أرجاء العالم والمغيّرة بتصرفاتها مفاهيم السيادة والاستقلال.

 


عرض الكل
moncler